لم يكن لعاقل ان يتصور ان جهاز الشرطة المصري سوف تتساقط اوراقه بهذه السرعة بل ان اكثر المتفائلين لهذه الثورة توقع نجاحها لكن بعد ان تكون قد قدمت اكثر من الف شهيد على الاقل وعشرون الفا من الجرحي باعتبار ان هذه الثورة كانت ستواجه جيشا جرارا من رجال الشرطة وقوات الامن المركزي عرف عنه عالميا انه الاكبر كما في العالم حيث انه هو الجهاز الاول الذي يفوق في تعداد افراده والعاملين فيه من جنود وامناء شرطة وضباط عدد الجيش الوطني المصري النظامي ففي اخر احصاءات اشارت الى ان عددهم تجاوز السبعمائة وخمسون الفا بالمقارنة بقوات الجيش البالغة ربعمائة وخمسون الفا فقط ، ليس هذا فقط بل ان هذا العدد ( عدد رجال الشرطة ) يفوق في تعداده عدد قوات الامن الداخلي لدول الاتحاد الاوربي ال25 مجتمعه ، وهو شئ يدعو الى التعجب والاندهاش فكيف بدولة المفترض انها خاضت حروبا كثيرة قبل ذلك والمفترض انها في بيئة اقليمية غير مستقرة ان يكون عدد افراد جيشها اقل عددا من افراد قوات امنها الداخلي ، الا اذا كان الشعب لمصري يشكل تهديدا لامن الدولة اكبر من التهديد الذي قد تشكله دولة اسرائيل على الامن المصري القومي ، بل ان الصادم فعلا للمهموم بالشان المصري ان يعرف ان هذه العدد لا يشمل عدد افراد قوات الامن المركزي وهم عبارة عن مجموعة من المجندين المفترض فيهم تامين حدود الوطن الخارجية الا ان النظام البائد ابى ان يوجههم هذه الوجهة الشريفة واصر على الاستعانه بهم لخدمة اغراض الشرطة الغير شريفة ، وقد تضخم هذه العدد ليصل الى اكثر من مليون فرد(تصوروا ) اي ان مجموع عدد افراد الشرطة وقوات الامن المركزي يقترب من الاثنان مليون فرد ، اليس ذلك مدعاه للدهشة والذهول ايضا ان تسخر دولة كاملة حوالي 2 مليون شخص لتامين الجبهة الداخلية على حد قولهم ، ولكن هل امنت هذه الجبهة ؟
المتابع للشان المصري الداخلي قبل قيام الثورة يستطيع ان يرى ان هذا الجهاز لم يكن له اي صلة بالنراعات الشعبية الداخلية من سرقة وقتل ومشاجرات وخلافه بل انه عرف عنه انه لا يات الا بعد انتهاء المعركة ، ولكل افراد الشعب المصري خبرات كثيفة وقصص طويلة عن ازمات تعرضوا لها سرقة وقتل ومشاجرات ولم يجدوا فيها من يحميهم او يدافع عنهم بل ان الامر المثير انهم كانوا قبل وصولهم يطمانوا اولا بانتهاء الشجار او برحيل القاتل او حتى بمغادرة السارق للمكان الذي سرق منه ( ان اتوا اصلا )، اما عن المخدرات فان ما يضبط منها هو بالكاد اقل من عشر ما يدخل منها البلاد وبافتراض انه تم ضبط كميات معينة منها نتيجة لرغبة لاثبات الذات او حتى تصفية حسابات مع بعض تجار المخدرات فان ما يحدث عقب ذلك هو فقط اثبات الجريمة من خلال كمية معينة يتركوها للنيابة العامة لتحقق فيها والباقي يقوم رجال الشرطة بتوزيعها على انفسهم كنوع من المجاملات الاجتماعية والمتداخل مع فئات الشعب المصري المختلفة له ان يلحظ ان اكبر كميات من نبات البانجو والحشيش توزع في افراح واحتفالات رجال الشرطة وخاصة امناء الشرطة. وهذه الفئة الاخيرة تحديدا هم من ابطال تنظيم حالة المرور في مصر ، فيكفي فقط ان تسير بسيارتك او باي وسيلة مواصلات عامة او خاصة لتكتشف بنفسك كم الرشوة والفساد التي تورط فيها هؤلاء الرجال والتي رصدتها بعض الكاميرات الخاصة ونشرتها على العديد من المواقع والشبكات الاجتماعية الاليكترونية ( الفيس بوك ، اليوتيوب ، التويتر .... الخ ) ولكن احقاقا للحق فانه في الفترة الاخيرة وعندما فاحت الرائحة بشكل ازكم الانوف كثيرا عند المواطن العادي وقليلا عند قيادات رجال الشرطة ، تحول هؤلاء من تلقي رشاوي مباشرة الى تلقي رشاوي غير مباشرة ( كروت شحن هواتف محملة ، سجائر ، وجبات غذائية ...... الخ ) واستمر هذا الوضع المستفز والمقيت حتى قامت الثورة العظيمة في 25 يناير ، لتقضي بصرخات مدوية على صرح من خيال ، هوى في اربع ساعات ( من الساعة الواحدة ظهر يوم جمعة الغضب الموافق الثامن والعشرون من يناير ، حتى الخامسة عصر ذات اليوم ، موعد اعلان نزول الجيش في شوارع محافظات القاهرة والاسكندرية والسويس .
الا ان المثير للفكاهة ان يخرج الان بعض افراد رجال الشرطة ليقولوا "اننا رفضنا اوامر بفتح الرصاص الحي على المتظاهرين لانهم اخوة لنا وابناء واباء" وهو كلام لو تعلمون عبيط . لان من يقول ذلك يفترض اولا في نفسه القدرة على هذا الفعل اي فتح الرصاص الحي ، ويفترض ثانيا ايضا انه لم يفعل ذلك البتة ، ويفترض ثالثا ان الشهداء الذين تجاوزوا الخمسمائة والمصابين الذين تجاوزوا الخمسة الاف قتلوا خطا او بنيران صديقة من جانب رفقائهم المتظاهرين . ان امرا كهذا ينبغي الا يؤخذ بسطحية وتبسط ، فالذين واجهوا المتظاهرين بكل قسوة في شوارع القاهرة والمحافظات الاخرى كانوا رجال الشرطة ، والذين لقنوهم درسا لن ينسوه ابدا الدهر هم الثوار ومن خبرة ذاتية اقول اننا ووجهنا بخمسة عربات امن مركزي وسيارتان مدرعتان في نهاية المعركة كانت الحصيلة هو هروب عربة مصفحة والسيطرة على اخرى وتدمير ثلاث عربات امن مركزي والسيطرة على اثنان ، وما حدث معي حدث في كل المواقع التي واجهت فيها الشرطة المتظاهرين العزل واؤكد على العزل لان من قاموا بمواجهة الشرطة لم يكن معهم الا سواعدهم الفتية وروحهم الوثابة للثورة ، وحبهم للموت كما يحب رجال الشرطة الحياة ، وبالتالي فلا مجال لقول بانهم رفضوا فتح الرصاص بل قل لم يكن لديهم القدرة على الاستمرار في فتح الرصاص الحي على الثوار ، نتيجة لتساقطهم امام الزحف العظيم لهؤلاء الشرفاء المجاهدين . كما لا يجوز الادعاء بانهم رفضوا تنفيذ اوامر لان في هذا اليوم تحديدا انقطعت الاتصالات عن كل من هو موجود في مصر المحروسة من رجال شرطة وثوار باعتراف رجال الشرطة انفسهم وبالتالي فان الاوامر كانت لديهم قبل ان تقوم الثورة ذاتها بفتح الرصاص على المتظاهرين ، ليس ذلك فقط بل ان عشرات الشهداء قد سقط امام مبنى وزارة الداخلية العظيم الموجود في شارع الشيخ ريحان في قلب القاهرة من قناصة وجدوا داخله .
ومع ذلك فانني لا اهدف ابدا مما اقول صب الزيت على النار في العلاقة بين رجال الشرطة والمواطنون فلا مناص من التصالح بين الطرفين ولكن هذا الصلح لا يتم الا بشروط ، اولها هو الاعتذار الواضح والصريح والذي لا لبس فيه من جانب رجال الشرطة للمواطنين ، ليس عما حدث في ايام الثورة الاولى فقط ولكن عما حدث في تاريخ وزارة الداخلية منذ تولي الوزير السابق حبيب عادلي ، على ان يكون هذا الاعتذار على لسان رمز وزارة الداخلية الان وهو وزيرها الحالي الذي تشير المعلومات المبدئية الى انه من رجال الشرطة الشرفاء عن حق هذه المرة ، والاعتذار يحمل في معناه النية بعدم العودة الى السلوكيات التي مورست في السابق ، وثانيا ان يترافق مع ذلك رغبة من جانب النظام السياسي الجديد في وضع قوانين ولوائح تنظم عمل جهاز الشرطة بالشكل الذي يضمن التنفيذ الفعلي لشعارهم الجديد القديم ( الشرطة في خدمة الشعب ) عند ذلك وذلك فقط من الممكن ان نتحدث عن صفحة جديدة في العلاقة بين رجال الشرطة والشعب المصري .