الأحد، 20 يناير 2013

قــــبول الآخر

حين الحديث عن التنوع والتعددية في الحياة الاجتماعية والإنسانية، دائماً ما يتم تداول مفهوم “قبول الآخر”. وهو مفهوم يمتد ليتناول طبيعة العلاقة بين المختلفين والمغايرين دينيا أو قبليا أو عرقيا أو مناطقيا أو حتى نوعيا.... الخ وهو مصطلح يقصد به أن لكل ذات إنسانية ذات إنسانية أخرى، ومن خلال تحديد معنى الذات، يتحدد بطبيعة الحال نوعية الآخر.. فإذا كان الحديث بعنوان ديني فإن الآخر هو كل من ينتمي إلى دين آخر،وهذا ينطبق على مقولات القومية والعرقية والمناطقية والنوعية، فالآخر يتحدد من خلال تحديد معنى الذات والاعتراف به في صورته الأولية يعني الاعتراف بوجوده وكينونته الإنسانية وبحقوقه الآدمية بصرف النظر عن مدى القبول أو الاقتناع بأفكاره أو قناعاته العميقة أو الشكلية،فلا يمكن لأي إنسان أن يدعي الاعتراف بالآخر وهو يهدده في وجوده وكينونته الإنسانية،فالذي يعترف بالآخر لا بد أن يحترم وجوده، وكل متطلبات حياته الإنسانية، لهذا فإن مفهوم “قبول الآخر”، يناقض بشكل تام، مع استخدام وسائل الفرض لإقناع الآخر أو دفعه إلى تغيير قناعاته، حيث ينبغي القبول به كما هو، بعيدا عن الخلفيات الأيدلوجية أو القومية أو الدينية. فلا يمكن أن ينسجم هذا المفهوم مع أساليب الفرض والدفع بوسائل مادية لتغيير المواقف الأيدلوجية أوالفكرية وتبديلها. فـ”القبول بالآخر” في صورته الأولية، يعني احترام حياته الإنسانية وكينونته الذاتية ومتطلباتهما. وقد يحاول البعض في سياق الحديث عن مفهوم “قبول الآخر” أن يحدد بعض الشروط ،إلا أن عادة ما يعني ذلك أن يتخلى الآخر عن ما هو عليه كشرط لقبوله. وهذه من المفارقات العميقة، والتي تكشف رفض الكثير من الناس لهذا المفهوم. فليس مطلوباً من أحد أن يتخلى عن قناعاته من أجل أن يقبله الطرف الآخر. فللجميع حق رفض قناعات الآخر والتعبير بوسائل سلمية عن هذا الرفض ولكن ليس من حقهم تهوين آو تهويل أو تشويه القناعات والأفكار،كما لا يجوز أن يطلب من الآخر تغيير قناعاته كشرط لقبوله. فـ”قبول الآخر” لا يلغي الحق في امتلاك وجهة نظر نقدية عن أفكار وقناعات الطرف الآخر. ولكن في ذات الوقت فإن مقتضى مفهوم “قبول الآخر” القبول به كما هو يريد وليس كما يراد له. فـ”قبول الآخر” ينبغي أن يقود إلى التعايش الذي يضمن حقوق الجميع بدون تعد وافتئات من قبل أي طرف على الأطراف الأخرى، إلا أن ذلك لا ينبغي أبداً أن يترك لأهواء العامة يتحدثون عن قيم “قبول الآخر” دون أن يمتد ذلك لتطبيق هذه القيم في الحياة المعاصرة. لهذا فإن وجود مبادرات مؤسسية وطنية وقومية لحماية حقيقة التنوع الديني والمذهبي والقومي والنوعي يعتبر أحد المداخل الأساسية لصيانة وحفظ الأمن الوطني وتعزيز قوته وسد الثغرات التي قد ينفذ منها الخصوم الحقيقيون للوطن والذين يعملون على تحقيق أغراضهم ومصالحهم الخاصة. فـ”قبول الآخر” لا يحتاج إلى الخطب الرنانة والمواعظ الأخلاقية المجردة، وإنما يحتاج لوقائع ميدانية ومبادرات مؤسسية تستوعب جميع أطياف الوطن وتحمي تنوعه بقانون وإجراءات دستورية. إن الاعتراف والإقرار بثقافة التسامح و”قبول الآخر” والاعتراف به هو أمر جيد ومقبول نظرياً ولكن يجب العمل من أجل ترسيخ قيمة هذه الثقافة وتطبيقها في الحياة اليومية بشكل يعود بالفائدة على الجميع دون استثناء. إن ممارسة ثقافة “قبول الآخر” المختلف عنا إذا أُحسن إدارتها والتعامل معها، فإنها تزيد أي مجتمع قوة وثراء على مختلف الأصعدة والمستويات. وفي ذات الوقت فإن وجود توترات وأزمات في طبيعة العلاقة بين هذه المكونات لا يعني أن المشكلة هي في طبيعة التعدد والتنوع، وإنما في طبيعة الخيارات السياسية والاجتماعية والثقافية التي أوجدت تصنيفات حادة بين أهل الوطن الواحد تحت عناوين ويافطات دينية أو مذهبية أو قومية أو عرقية. فالسبب الجوهري الذي أدى إلى بروز توترات بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد هو في الخيارات المستخدمة مع هذه الحقائق. فخيارات القتل والإرهاب والاستئصال تفضي إلى توترات أفقية وعمودية بين جميع مكونات المجتمع العرقية والقبلية والمذهبية والنوعية. أما خيارات الحوار والحرية والتسامح والمساواة وصيانة حقوق الإنسان واحترام خصوصيات جميع الأطراف، فإنها تفضي إلى نسج علاقات إيجابية بين جميع الأطراف والمكونات وبناء استقرار سياسي واجتماعي عميق في المجتمع، علاقات لا تهدمها عواصف السياسة ومتغيرات الراهن، بل تزيدها صلابة ووقوفا بوجه كل المؤامرات التي تستهدف تفتيته وضرب وحدته الوطنية. والاعتراف بحقيقة التعدد والتنوع في الفضاء الاجتماعي والثقافي، وتوفير مقتضيات ومتطلبات حمايتها، هو الخطوة الأولى في مشروع إنهاء التوترات الاجتماعية وصيانة الأوضاع الداخلية. فمطلب التجانس الوطني بين جميع الأطراف لا يتحقق بالعنف ورفض الآخر، وإنما من خلال ثقافة تحترم التعدد وتدافع عن مقتضياته وخيارات سياسية تقوم بعملية الاستيعاب والدمج انطلاقا من مفهوم المواطنة وبعيدا عن النزعات الضيقة التي تحول دون بناء فضاء وطني مشترك وجامع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نرحب بتعليقاتكم لخدمة هدفنا الاسمى في الاصلاح المنشود